أرض الأرياني


نور ناجي

تختلف الآراء، حتى يتردد إسم الشاعر والمؤرخ الكاتب الكبير "مطهر الأرياني".
 
إن لم تتعرف من قبل على كلمات ذات رائحة، أنصحك بقراءة ما نقله مؤرخنا الكبير.. لن تقطع له عدة أسطر حتى تلتقط نسمة ما؛ نكهة البن الطازجة لحظة قطافه؛ انتفاضة الحقول وهي تستقبل زخات المطر، ولعلك تعثر بين حروفه على عبق "غائب عنك" منذ سنين..
 
نقل إلينا الشاعر الكبير "تاريخ اليمن" بشكل مغاير عن الآخرين؛ أرض مغرقة في يمنيتها، حتى أنك تتسائل: من الذي غرف من الآخر، الأرياني أم الأرض التي عشقها؟! ربما تجد الفلاح على أرضه منهكا بعض الشيء، إلا أن ذلك لم يعقه مطلقاً عن إنتظار الأمل. أليست الحياة بالمجمل سوى محطات حصاد له؟!
 
خطر غصن القنا..
وارِد على الماء نزل وادي بنا، ومر جنبي..
وباجفانه رنا، نحوي وصوب سهامه واعتنى،
وصاب قلبي..
أنا يا بوي أنا..
أمان يا نازل الوادي أمان..

 
قد تتوقف كثيراً أمام هذه الأغنية، فعلى الرغم من بساطة كلماتها وخفتها على الروح، إلا أنها تشحن القلب بحزن غريب يجعلك تفتش عن الفتاة التي أخذ الشاعر يؤكد لها مرارا أمان الوادي وسلامة نزولها فيه..
 
"هناك أمر ما في هذه الكلمات، وجع لم يقبل إلا بالمجاهرة بنفسه، بعيداً حتى عن رغبة الشاعر"، تقول في نفسك حتى تكتشف الرابط الذي جمع بين أبيات الأرياني "والدودحية"..
 
في الغالب، لا يدون التراث سوى النهايات المأساوية. وقد تناقل التراث اليمني قصة تلك الفتاة عبر إسطوانة قديمة لمغنية يهودية.
 
وجع شديد، هو ما يستفز  الشاعر لإعادة صياغة قصة م،ا بالطريقة التي ترضيه، مخالفاً الأعراف والتقاليد الحاكمة لمجتمعه..
 
لم تنبت العادات والتقاليد من فراغ، فهما أبناء المعاناة التي مازل اليمني يتوارثها جيلا بعد جيل، كفّان موضوعان فوق رأسه؛ أحدهما غليظ فظ، والآخر يجاهد ما أمكن لكف الأذى عن أبناءه. ولم يخالف الأرياني تلك التقاليد، مازال يتجرع حلوها ومرها بذات الكاس التي يشربها غيره. إلا أنه فضّل إبقاء عينيه مفتوحتان؛ الطريقة الوحيدة التي ستحرره من القيود وتجعله يلتقط من الأرض القاسية أليَن ما فيها.
 
كيف فعل الأرياني ذلك؟! تتسائل وأنت تعود إلى حدية المورث الشعبي للقصة، وتحوُّلَه بين يدي الشاعر لمناجاة عذبة رقيقة تترجى الفتاة، وتحاول حمايتها من المخاطر. لعله جاهد كثيراً حتى اختلس موضعاً صغيراً في قلب الدودحية دون أن تشعر به. فقد كان يريد الحقيقة قبل لمس مداده. لا تزييف في المشاعر أو مبالغات يسوقها الأحبة عن أنفسهم، يبغي الشاعر قصة نقية كما اعتاد.
 
لم يكن الأرياني ليحمل قسوة الحاكم الذي أصر على تشويه سمعة الفتاة لمآرب سياسية. فقد حكمت جغرافيا المكان عليها دون أن تسمح لها بالدفاع عن نفسها. على العكس من ذلك، ترك شاعرنا للفتاة فرصتها في الرد، وأخذ يستمع إلى العبارات البسيطة الصادقة المتبادلة بينها وابن عمها قبل أن تضع حزمة القصب على رأسها، وتقطع الوادي بصحبة نظراته.
 
 لم تكن الأيام دائما بتلك السلاسة، فقد نشبت بعض المشاحنات بين الشابين، أهمها تلك التي اختلافا فيها على إسم مولودهما الأول، قبل أن تعود الفتاة لرشدها وتتذكر وعدها المسبق بالكف عن الخصام..
 
مازال الشاعر يتلصص في مكانه، حتى فضحته ضحكته لحظة اكتشافه جهل الدودحية لطريقة صنع الفطائر التي يحبها الفتى: كيف له أن يغمس تلك القطع الباردة في قهوة سيئة الطعم؟! يتسائل الأرياني قبل أن يشعر بغصة تطفىء ضحكته. أي محاكمة جائرة وقعت على هذه الأرض؟! لا بد وأن يعيد للفتاة بعض مما سلب منها: كرامتها التي أهدرت بلا وجه حق، أو بحق زيّفه الحكام باسم الله..!!
 
لا يلبس الله العمائم، سوداء كانت أم بيضاء، ولا ينظر إليها، فقط القلوب الحاسرة عن نفسها هي من تملك مساحة الحديث والشكوى. لم يضعنا الله على هذه الأرض، إلا وقد راهن على نبذنا للفساد وسفك الدماء، وسيبنى جزاءه وفق هذه القاعدة.
 
 أكاد اجزم أن هذا هو الرب الذي أعتقده "الأرياني"، وهو يحاول إزاحة المظالم عن الدودحية:
 
أخذ قلبي وراح..
وشق صدري بالاعيان الصحاح،
يا طول همي، ويا طول النواح..
من حب من حل هجري، واستباح قتلي وظلمي،
أنا يا بوي أنا..
أمان يا نازل الوادي أمان
أنا يا بوي أنا..

 
لا أعرف إن تمكن الشاعر من إيقاف الجموع الثائرة المطالبة بدم الدودحية، أو إلقاء اللائمة عليها!! أي رأفة قد نطلبها منهم، بعد أن جلدتهم حياتهم بأسواط الحّكام، حتى أمست أقسى من الحجر الصوان!! حشود مغبونة، وجدت أن توحشها على الأضعف سيشفي غليلها من عجز تطبعت به، وقد كانت الفتاة في تلك اللحظة هي الأشد ضعفاً!.
 
ليس ذلك وحسب، مازال الجوع لاعباً رئيسياً في محاكمة الدودحية، بعد أن شعر بعجزه امامها. فقد كانت الفتاة صاحبة القلب الوحيد الذي عصاه وأبى أن يُمضغ كقلوب غيرها. يحيل الجوع القلوب إلى مواد صالحة للمضغ فقط، وقد استخدمت الدودحية قلبها في عطاء الحب ومنحه، لذلك توجب معاقبتها..!
 
ربُّ الجياع قاسٍ كما رب الحُكّام، يلتقي كلاهما في سهولة الذبح. ربما ينسخ أرباب البشر الظلم فيما بينهم، ليتماهوا بذلك الشكل! وصل الأرياني لذلك، وأرغم نفسه على تجاهل سؤال يؤرقه: "هل يستحق الشعب الذي فقد قلبه، حريته يوماً؟!"..
 
لمه تقسى لمه..
وتهجر، ابصر حبيبك ما أرحمه، هايم بحبك
جمالك تيمه، وطول صدك وبعدك سمسمه،
ما أشد قلبك
أنا يا بوي أنا
أمان يا نازل الوادي أمان
أنا يا بوي أنا..

 
لا أظن بأن الشاعر تمكن من مرافقة الدودحية في رحلتها الاخيرة. ربما أخفى نفسه حتى لا تلتقط اذناه لعناتها، إن صدرت عنها. لكن هل قامت بذلك فعلاً، ولعنت حبها وهي "تُعَزّر" بين القرى، أم أنها اغمضت عينيها وأبقت روحها متشبثة به، لعله ينجيها من كمية الكراهية التي أخذت تراق عليها، وقد شعرت بأن الحشود الملتفة حولها، تتمنى شق فمها لافراغ بعض مقتهم فيه؟!.
 
لا أعلم ما إذا كانت تلك الجموع قد أدت صلاتها بخشوع بعد دفن الفتاة، أم أنها تغاضت عن مواجهة نفسها؟! ألم يكن الأجدر بها إعدام الوادي المجرم، الذي كان نسيمه مرسال العاشقين؟!؛ إحراق الشجر الذي ظللهما وهما يبحثان عن طريقة تجمعها؟!؛ قد يكون السيل، الذي منحهما بجريانه السلس أملا في لقاء قريب، هو الجاني الحقيقي في تلك المأساة.. من يدري؟!.
 
مازالت الغُصّة تمضي بك، رغم محاولة الشاعر إزاحة الجريمة التي وقعت باختلاق نهاية جميلة: "لعلهما التقيا الآن، ولن يفترقا بعدها"، يعلل نفسه وهو يتجه نحو  أوراقه..
 
لم يملك "الأرياني" قلب واحد وهو ينظم الكلمات الجديدة. فقد أخذ قلب الدودحية موضعه على كتف الرجل، ومازال يستبدل كلمة هنا، ويبدي اعتراضه على أخرى هناك، قبل أن يكتفي بالصمت..
 
 لا تقوى المرأة على كتابة مشاعرها؛ عيناها فقط من تتجرأ على البوح، كما أن الحروف- مهما بلغت روعتها- لا تجزي احساسها. لكن الدودحية قبلت أخيراً بما كتب الشاعر: " لا بأس به كمحاولة أولى"- تقول، قبل أن تمط شفتيها وتغادر، تاركة خلفها ذكراها الحزينة..
 
وذكرك في فمه..
غنوه، وحبك جرى مجرى دمه..
يحلم بقربك..
ترفق وارحمه، لا تعدمه الجفا شاتعدمه..
 والذنب ذنبك..
أنا يا بوي أنا
أمان يا نازل الوادي أمان

 
ما أن تقترب الأغنية من نهايتها، حتى تشعر بالحيرة: كيف تمكن الشاعر من نظم تلك المشاعر المخلصة على الرغم من المدى الزمني الواسع بينه وبين الفتاة؟! لا تتوقف عن الدهشة حتي يشير لك قلبك بالحقيقة: لا يصدر تلك الحروف سوى قلب عاشق..
 
يبدو أن "مطهر الأرياني" وقع في حب "الدودحية"، بينما كان يدافع عنها!!
 
 يحدث أن تعشق القلوب دون أن تلتقي.. ما جدوى أي لقاء حي محكوم بقيود الزمن؟! بينما امتلك شاعرنا القدرة على مد جذور قلبه بين تراب أرض مازال حياً فيها ابدا..

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر