بين قصر طهران وكهف الرياض!


محمد علي محروس

 ربما نجهل الكثير مما يدور في كواليس السياسة، والمخاضات الكونية التي تحتويها الأروقة المستطيلة والطاولات الدائرية، هذا شأنٌ له أحواله، لا نطاله، وإن طلناه فإننا نخفق؛ فالغوص في عمق بحر السياسة يحتاج عدة متكاملة، في مقدمتها المكر والخديعة، وعند الشرفاء النادرين، تحتاج رباطة جأش، وعتاد كافٍ من رصيدك التفاوضي بنفس لا ينقطع!

تلك السياسة، وخلافها الواقع، وهو ما لا نجهله، بل نعيه تمامًا، كوننا نعيشه، ونصنع أحداثه، نحن الذين نكتوي بتفاصيل حياتنا اليومية المبتدعة للموت، الصانعة لصخب لا يتلاشى، لوقائع تُبنى عليها مواقف تزيد الوضع تعقيدًا، وتفتح الباب أمام مراحل جديدة للصراع، بأساليب لا تخطر على بال أحد، وهذا ما يجدر بالسياسيين فعله، إذ ينتهزون الفرص، ويستخدمونها وسائل للضغط والانتهاز..

هذا عدا ما نعيشه ككيان وقع في فخ الخذلان، بفعل سياسة هشة، وسياسيين لا يجيدون من السياسة سوى الانتساب إليها، وهذه كارثة أقحمتنا في أتون فوضى ندفع ثمنها نحن، أما هم فلكل منهم مخرج وسبيل!

شاهدت صورًا لقيادات عسكرية عليا وهي مجتمعة في كهف من كهوف نهم، على عكس اجتماع آخر للانقلابيين الحوثيين من دار الرئاسة في صنعاء، في انعكاس مثير لمعادلة كانت مختلفة قبل خمس سنوات من اليوم، فالحوثيون كانوا يتنقلون بين الجبال ويأوون في الكهوف، تمامًا كالعصابات الفارة من وجه الدولة، وهي كذلك، أما الحكومة الشرعية فكانوا في القصور الرئاسية، والمقرات الحكومية، والمعسكرات الرسمية، لكن ما يجري قلب الأمور رأسًا على عقب، في مشهد يؤكد حقيقة الصراع في اليمن، وماهيته، ومآلاته المرتقبة، في ضوء التباينات المثيرة للدهشة!

قيادات الدولة المدنية مشردة، في مناطق محررة وتدين لها بالولاء التام كمأرب وتعز، وأخرى مشردة إجباريًا في الرياض، كالرئيس هادي ونائبه وقادة آخرين، وهناك من لجأ دون عودة.. كأننا نعيش في دولة لا يحكمها أحد، أو هكذا أريد لها أن تكون موئلًا لصراع طويل الأمد، أما القادة العسكريون فمن جبل إلى جبل، ومن كهف إلى آخر، وهذه ثمرة تحالف فاضت أهدافه عن حدها، فما لبث أن قلب المعادلة كلها، فالمليشيا حلّت محل الدولة، حتى من حيث المكان والمكانة، وهذا ما لا أظنه سيتكرر إطلاقًا.

راهنت الشرعية على جواد خاسر، وتحالف لا هدف له سوى تحقيق ما عجز عنه منذ عقود، في تحويل اليمن إلى محميات يحدد مصيرها ويتلاعب بقرارها ويستفيد من ثرواتها، وإن أظهر غير ما يبطن، فما يجري فاق التأكيد وتجاوزه.

هذا الرهان أخرج الشرعية وقادتها المدنيين والعسكريين من قصور الحكم ومؤسسات خدمة المواطنين إلى الفيافي القاحلة والجبال الشاهقة يلاحقون سراب العودة إلى الحكم، بفعل تدخل حاد عن هدفه السامي، وانحاز لأجندة لا تعني اليمنيين، ولا تحقق لهم شيئًا مما تطلعوا إليه، بل زاد أن جلب لهم الويلات والأزمات طوال السنوات الماضية، ويكتفي جيراننا المنقذون بكلأنا بعين الرعاية والاهتمام المصطنع، من قبيل المواساة المزعومة وتلميع صورهم أمام العالم، على أنهم يساهمون في التخفيف من أزمة اليمن الإنسانية.. من قصور صنعاء إلى كهوف الرياض، مع مجاز التعبير لأولئك الذين لا يملكون قرار العودة، بسبب الاحتجاز القسري من قبل السلطات السعودية، التي تعيش تباينًا واضحًا على مستوى سياساتها وخاصة تجاه اليمن.

أما الانقلابيون فقد استفادوا من كل هذا العبث، وحققوا كل ما أرادوه وزيادة، فتحولوا من حياة الكهوف إلى القصور، بفضل حماقات تحالف دعم الشرعية، والخلافات التي لا تتوقف بين القوى المؤيدة للحكومة، وأضف لذلك الاستشارات الغير محدودة والدعم الاستثنائي من إيران، وهو ما مكنهم من القصور، ليتحولوا إلى إدارة فعلية وفق الأمر الواقع، من كهوف صعدة إلى قصور طهران، فالرياض أخرجت الشرعية إلى الكهوف، وطهران مكنت الحوثيين من القصور، وهذا مخاض السياسة الجائر، الذي توصلنا إليه بعد حوار يمني خالص، وانقلاب عليه من قبل الحوثيين وحلفائهم، وتدخل عسكري عربي فشل في استعادة الشرعية، وتحوّل من منقذ إلى منتهز، فبعثر أوراق الجمهورية، ومكّن الانقلابيين من البلاد ومقدراتها، شئنا أم أبينا، فتلك حقيقة ناصعة، لا مفر منها، ولا يوجد ما يدحضها أو ينفيها.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر