نيتشه تحت النافذة


سلمان الحميدي

 الضبع أكل الحمار ليلة ناقشنا نيتشه، وتحمل صاحبي وشقيقه غضب والدهم واعتدائه عليهم.
 
يتراءى لي هذا الحادث كلما سمعت أو قرأت شيئا عن نيتشه ـ الفيلسوف الذي حاولت قراءته بعد الثانوية وأعجبني بعض ما قرأت ولم يتكون لي رأي حول الكثير الذي لم أحاول فهمه من أفكار الرجل صاحب الشارب الكثيف، وبما أن القراءات الأولى تكون لمجرد القراءة، لم أدقق في نيتشه وأحفظ أفكاره، ووصل بي الحال إلى درجة الاستغراب من النقاشات التي تدور حول أفكار الرجل، هل بالفعل يكمن خلاص الإنسانية باعتناق أفكاره كما يشيع مؤيديه: الحرية بلا حدود، الإنسانية في المواطن الغريبة، والبقاء لمن يستحق؟
 
 كما أستغرب أيضاً من كل الاتهامات التي يتلقاها الرجل من الجانب الآخر: الترويج للإلحاد، العنصرية، وفوضى العلاقات، ومع التلجلج بين وجهات الطرفين لا أبذل أي جهد لقراءته من جديد، لا أريد أن أكون من أي من الفريقين، تكفي الصورتان المرتسمتان في ذهني التي تطرأ عند ذكر  نيتشه، الأولى: مؤلف له فلسفته تجاه الحياة ونحن لسنا مرغمين على تبني أفكاره وتطبيقها في حياتنا، والثانية: الإتان التي أكلها الضبع وتحمل صاحبي الثمن.
 
بعد السنة الجامعية الأولى، ذهبت إلى حامد في القرية المجاورة، لأنه يعرف كيف يتحدث ويتفلسف منذ كان في المدرسة، يبدو من المثقفين المنطلقين نحو العمق، كان يشيد به أستاذ مبادئ الفلسفة وهذا ما يجعلنا نجالسه للتعلم منه، وأنا حاولت قراءة كارل بوبر في تلك السنة وتعقدت، أصبت بصداع، يأتي المفسرون لتبسيط المعقد، وحامد كان من المفسرين.
 
كنت إلى جوار شقيق صاحبي، نسمع منه وهو يتحدث عن الأفكار والمجتمع ويستشهد بمفكر هنا وبفيلسوف هناك، حتى أن شقيقه قال: حامد اخي، درست علشان تقنعنا بأفكار الناس والا بأفكارك، لكن حامد تفلسف هنا عن الأفكار، ولم يتوقف إلا بعد العصر، حين سمعنا صوت والدهم في الخارج ينادي عليهم: حملوا شوالات الدمال واتبعوا الوادي، فقال شقيق حامد: وقت الدَّمال يابه، خلنا نتثقف، اليوم معنا ضيوف ضيوف.
 
وكان حامد كلما سمع صوت والده ينخفض صوته تلقائياً، وأحياناً يسكت تماماً، لا أعرف لماذا؟ ولكن والده إنسان طيب وخبير في زراعة الأرض، ويعرف أيام تسميد الأرض بمخلفات الحيوانات، ويذهب إلى المسجد، وقد هممت بالمغادرة كي يذهب حامد وشقيقه لمساعدة والدهم، لكن شقيق حامد أكد: الحمار ضائع.. وخرج للحديث مع والده حديثاً لم أسمعه، ثم عاد للجلوس معنا.
 
عقب ذلك، انتقل حامد للحديث عن نيتشه، وعندما جاء على سيرة النساء قال بأن إنسانية نيتشه قد وصلت به إلى درجة تنبيهه للرجال بعدم تقبيل النساء، المومسات أثناء المضاجعة، وقبل أن يكمل الشرح أصر شقيقه على معرفة معنى "مومس"، قبل أن يسترسل حامد بشرح مقصد نيتشه: القبلة فعل إنساني وتخلق حالة عاطفية من نوع ما، ولهذا لا تكونوا إنسانيين لأجل إطفاء نزوة عابرة، مع القبلة قد يولد شخص يطغى عليه الجانب الإنساني وبما أنه بلا أسرة فلن يعرف مواجهة العالم، بلا قبلة قد يولد شرير يتمكن من التعامل مع مصيره بغل وانتقام.
 
هذا الجزء الوحيد الذي تطرق له حامد وما زلت أذكره من كل حديثه، ليس لأنه ايروتيكي، ولكن من كثرة مقاطعة شقيق حامد لأخيه، وقد تهكم هنا من إنسانية نيتشه التي يتحدث عنها حامد: تبز لك واحدة وتـ... عادي، تعمل لك حبة لا.. الله الله والإنسانية.
 
وكان رد حامد أن فلسفة نيتشه وحِكَمه موجهة للبيئة التي نشأت فيه أفكاره، حيث أنهم في تلك البيئة "يتراكبوا مثل الكباش"، وفي الأثناء، عاد والدهم، وسمعنا نهيق الحمار، طلب بنبرة ساخطة: "واحد يقود الحمار وينقل الدمال للوادي، والثاني يتحمل الماكينة ويديها للملحم" يطلب ذلك دون أن يدخل إلى المكان الذي نجلس فيه، لنسمع بعد ذلك أم حامد وهي تزجر زوجها: اليوم كمله، غابت الشمس.. وباكر من باكر.. فيُحرج حامد ويسكت تماماً بينما يخرج شقيقه ليناقش والديه ويعود.
 
طغى نيتشه على حديث حامد، لكنه لم يشر "البتة" على أن الرجل قد دعاه للتحرر من الإله، إذ أذن المؤذن لصلاة المغرب، وقمنا نصلي جميعاً في المكان، واستأنفنا النقاش حول نيتشه، وبعد العشاء سمعنا حركة خلف النافذة، فتوقف حامد عن الحديث، وخرج شقيقه ليرى ما إذا كان "نيتشه تحت النافذة"، فسمعنا والده  يؤكد بنبرة ساخطة:
أنت شل الماكينة ووديها للملحم متى ما كملتم السهرة، وحامد يرد الزربة على حوية الحمار..
يبدو أنه لم يشأ إحراج ولديه أمام ضيفهم حين سقط تحت النافذة..
واصلنا السهرة إلى منتصف الليل, مشيت، ونسى حامد أن يقفل باب الحوية على الحمار فأكلها الضبع.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر