آلاف الموظفين النازحين يغرقون في شواطئ عدن بحثا عن رواتبهم المفقودة منذ ثلاث سنوات

[ آلاف الموظفين النازحين إلى "الشرعية" ما زالوا يبحثون عن "رواتبهم" الموقوفة منذ ثلاث سنوات، بسبب الحرب ]

 لو قُدّرَ لهذه الطرقات الطويلة والقاسية- الممتدة من تعز إلى عدن- أن تنطق بالمعاناة، لحدثتنا عن مأساة آلاف الموظفين الذين يذرعونها ذهابا وإيابا بين المحافظتين، بحثا عن "راتب ضئيل" ظل طريقه عنهم يوما، قبل ثلاث سنوات، في سكرة هذه الحرب المعربدة.
 
بتوقف رواتبهم في سبتمبر/ أيلول 2016، فقد عشرات الآلاف من الموظفين ما كان يساعدهم- بالكاد- على سد جوع وحاجة أسرهم البائسة، فنزح الآلاف منهم إلى المحافظات المحررة، لا سيما عدن، على وعد من الحكومة الشرعية بإعادة رواتبهم.
 
 وفي العاصمة المؤقتة عدن، خاضوا ماراثونا طويلا من المعاملات المضنية، والمُذِلة أحيانا، ما بين وزارتي الخدمة المدنية والمالية. نجح البعض في إستعادة حقهم المفقود- وإن كان لا يصلهم إلا بعد أشهر. فيما ما يزال البعض الأخر- وهم النسبة الأعظم- يواصلون سعيهم منذ أكثر من ثلاث سنوات..!!  
 

قصة نازح غير مرحب به

"كالمستجير من الرمضاء بالنار"!!.. بهذا المثل المأساوي، يلخص المدرس عبدالواسع على سعيد لـ"يمن شباب نت" معاناته خلال رحلاته المضنية في إقتفاء أثر راتبه الذي أنقطع عنه فجأة، بعد عشرين عاما من العمل والمثابرة في سلك التعليم.
 
نزح "عبد الواسع" من محافظة الحديدة الى العاصمة المؤقتة عدن أواخر 2017، على إثر قطع ميليشيات الحوثي لرواتب الموظفين العاملين في مناطقها. وحين وصل إلى ديوان وزارة التربية في عدن، استقبله أحد السماسرة ووعده بإعادة راتبه مقابل راتب شهر يدفعه إليه مقدماً، ففعل ذلك وأعطاه المبلغ مع رقمه المالي..!!
 
تم تقسيم الموظفين النازحين الى ثلاث دفع، كان هو ضمن الدفعة الثانية. وبعد شهرين اتصل به السمسار واعطاه إرسالية الى إحدى المدارس بمحافظة لحج.
 
حينها ظن عبد الواسع أن الحظ ابتسم له، وأن غربته وغربة راتبه انتهت، ولم يدر في خلد الأستاذ المسكين- المنحدر أساسا من محافظة تعز- أن معاناته الحقيقة ستبدأ منذ تلك اللحظة: "عبارات عنصرية، ومشاعر كراهية غريبة، وتصرفات غير ودية"، أحس من خلالها أن حياته في خطر- حسب وصفه- إن هو كابر وبقى فترة أطول في مدرسته الجديدة بمحافظة لحج..!!
 
 في البداية لم يستسلم، وحاول إيجاد بيئة تعايش مشتركة، لكنه في النهاية فشل، ليعود خائبا الى عدن، مكتفيا بعزاء راتب يصله كل شهرين أو ثلاثة. غير أن هذا الوضع لم يستمر طويلا، ليتم إيقاف صرف راتبه مجددا منتصف 2019، بذريعة انقطاعه عن العمل..!!
 
"طلبوا مني استمرارية عمل"، قال بغضب، قبل أن يردف باندهاش: "كيف يطلبون مني ذلك، وهم يعرفون جيدا- وقد أخبرتهم بذلك- أن حياتي ستكون عرضة للخطر إذا لم أغادر، كما أبلغوني صراحة في المنطقة"!!.
 
بهذه الإندهاشات المؤلمة، يختتم المعلم البائس سرد معاناته، التي لم تكن لتخصه وحده، بل يتقاسمها معه المئات من الموظفين النازحين الى العاصمة المؤقتة.
 
 


خيارات إجبارية مُرّة 
 
قد تختلف بعض التفاصيل من نازح إلى آخر، لكن المعاناة هي العنوان الموحد للجميع: موظف نازح يبحث عن راتبه المفقود بين ركام حرب لا تتيح لقادتها وأمرائها استيعاب وتفهم مرارتها لدى أولئك المنسيين خلف هدير المدافع، حيث ألم العوز ومذلة الجوع لهم وأطفالهم..!!
 
فهذا استاذ مادة الفيزياء "وهيب أحمد علوان"؛ بعد سطو مليشيات الحوثي الإنقلابية على الدولة ونهب مرتبات موظفيها للمجهود الحربي، ظل مستمراً لسنتين في عمله بمديرية أرحب (محافظة صنعاء)، متشبثاً بنصف حياة؛ تقوم على نصف راتب- يصله بعد أشهر طوال- وسلة غذائية ناقصة، يتقاسمها معه مشرف حوثي متخم باللصوصية، تسنده بركات السيد القائد..!!
 
كان كل شيء هناك يسير "قسريا"، يقول علوان الذي ظل يتقلى- مثل غيره من المدرسين- تحذيرات متواصلة تُجّرم كل من يطالب براتب كامل بـ"الخيانة العظمى" و"مناصرة العدوان"!! وفي المقابل، يتم تسويغ فكرة أن من "يموت جوعاً، في سبيل سيده، وقضيته، يعد تضحية كبرى، وشرفاً عظيماً.."..!!
 
ويضيف مدرس مادة الفيزياء لـ"يمن شباب نت": "لقد وضعتنا المليشيات، أنا ومن تبقى من زملائي المدرسين، بين ثلاثة خيارات: إما الإستمرار في تدريس منهجها المُلغّم بملازم زعيمهم الميت حسين الحوثي؛ وإما التوجه إلى جبهات القتال في صفوفها؛ وإما الموت جوعا دون تذمر أو شكوى.."!!.
 
بعد سنتين من التدريس، أختار علوان الخيار الثالث، موضحا: "باعت أسرتي في تعز كل مايمكن بيعه، لمواجهة شبح الجوع والفاقة، على أمل في أنفراجه طال إنتظارها كثيرا"..!!
 
في شهر مايو 2018، نزح علوان من صنعاء الى تعز وقدم أوراقه الى لجنة في مكتب مدينة "التربة" أنشأت لهذا الغرض "وعد الحكومة الشرعية بصرف رواتب الموظفين النازحين"، وباشر عمله في مدرسة ثانوية بالقرية، مكتفياً بمبلغ زهيد يتم جمعه له من الطلاب، وتعاون زملائه المدرسين..!
 
وحاليا، يواصل أستاذ الفيزياء وهيب علوان التدريس بجدول حصص يومي كامل، لكن بنفسية نازح مشتت، ما بين "أمل" أن يعاد صرف راتبه أسوة بزملائه السابقين، وبين "يأس" أن تكون مجرد وعود "عرقوبية" من حكومة تعيش حالة نزوح قهري هي الأخرى!!.
 
 
ملف "شائك".. و"تعز" في المقدمة
 
أزاء هذه الأوضاع المأساوية، طرحنا القضية على الاستاذ عبدالرحمن المقطري- عضو إئتلاف مجلس تنسيق النقابات (متين) بمحافظة تعز- الذي وصف ملف الموظفين النازحين بـ"الشائك"، و"المعقد"، لا سيما "في ظل لا مبالاة وتقاعس مسئولي الحكومة الشرعية عن وضع ألية واضحة لمعالجة مشكلة تتفاقم أكثر مع مرور الوقت..".
 
وأعتبر، في حديثه مع "يمن شباب نت"، إن ذلك "هو ما جعل هؤلاء الموظفين عرضة للسماسرة، والفاسدين في وزارتي الخدمة المدنية والمالية بالعاصمة المؤقتة عدن، الّذين يبتزونهم بمبالغ مالية كبيرة مقابل وعودا بصرف رواتبهم- معظمها كاذبة".
 
وتحتل محافظة تعز المرتبة الأولى في عدد الموظفين النازحين، كونهم يمثلون نسبة كبيرة من موظفي قطاعات الدولة المدنية في أمانة العاصمة وغيرها، وأضطروا مؤخرا للعودة الى مدينتهم تعز كنازحين، بحسب المقطري الذي أكد على أنه "كان يفترض بالحكومة القيام بمهمتها في استيعابهم واعادة توزيعهم على مرافق عمل جديدة وصرف رواتبهم".
 
وأعرب عضو إئتلاف مجلس تنسيق النقابات عن حسرته وتألمه من بعض النتائج الكارثية الناجمة عن هذا الإهمال الحكومي، "وأكثرها إيلاما" كما يقول، هو "إضطرار بعض الموظفين، في مناطق سيطرة المليشيات الإنقلابية، إلى الإنخراط للقتال في صفوف المليشيات الإنقلابية، وذلك تحت ضغط الحاجة لإعالة أسرهم، مع خذلان وتقاعس حكومة الشرعية في صرف مرتباتهم.."!!
 
 


المعلمون الأكثر تضررا
 
الموظفون النازحون من مناطق سيطرة الميليشيات الحوثية، يمثلون مختلف الوظائف الحكومية، ويحتل المعلمون النسبة الأكبر منهم. وهذا أمر طبيعي كونهم الفئة الأكثر في الجهاز الإداري للدولة.
 
فعلى سبيل المثال، يوجد في محافظة تعز لوحدها فقط، (3,222) ملعما قيدوا أسمائهم في قسم القوى العاملة بمكتب التربية بالمحافظة، كنازحين من مختلف محافظات الجمهورية. طبقا لعضو لجنة متابعة مرتبات النازحين، أمين عقلان.
 
وأضاف عقلان لـ"يمن شباب نت": ومن إجمالي هذا العدد، ليس هناك سوى (1,197) معلما- أي الثلث فقط- هم من استعادوا رواتبهم، وهم الذين ذهبوا الى عدن في بداية عملية النزوح، وحينها لم يكن يطلب منهم سوى الرقم المالي، وصورة البطاقة الشخصية..
 
وأوضح أن هؤلاء كان قد تم تقسيمهم، مع بقية النازحين من محافظات أخرى، الى ثلاث مجموعات، قبل أن ترفض وزارة الخدمة المدنية في عدن استقبال أية أسماء جديدة بعد ذلك، مالم يكن لديهم مباشرات عمل من المحافظات التي نزحوا اليها..!!
 
وأعتبر عضو لجنة المتابعة أن مثل هذا الطلب "كان منطقيا"، مضيفا: "وعليه، تم توزيع بقية المعلمين، وعددهم (2,025) معلما، على مختلف مديريات محافظة تعز".
 
ويستدرك: وبذلك تمكنوا من احضار تلك الوثائق المطلوبة منهم، إلا أننا فوجئنا، حينها، بتعنت وزارة المالية ورفضها صرف رواتبهم..!!"، مؤكدا على أنهم "مازالوا حتى اليوم يزاولون أعمالهم بلا رواتب، منذ أكثر من عام"!!.
 
 
مطالب رئيسية وتحذيرات
 
وغير ذلك، فحتى أولئك الموظفين النازحين، الذين تكفلت الحكومة الشرعية بصرف رواتبهم ضمن الدفع الثلاث الأولى، ما زالوا يشكون أنفسهم من مشكلة عدم صرف مرتباتهم شهريا بشكل منتظم، ويطالبون بضرورة إنتظامها أسوة ببقية الموظفين الحكوميين الأخرين.
 
لذلك، نفذ العشرات من الموظفين النازحين من مختلف قطاعات الخدمة العامة، منتصف شهر فبراير المنصرم، وقفة احتجاجية أمام وزارة المالية في خور مكسر بالعاصمة المؤقتة عدن، للمطالبة بسرعة صرف مرتبات من تبقى منهم، إلى جانب صرف مرتبات النازحين المتوقفة منذ أربعة أشهر، وضرورة إنتظامها.
 
وعلى إثر تلك الوقفة، قامت الحكومة بصرف راتبي شهر نوفمبر وديسمبر الماضيين، فيما لا تزال مرتبات شهري يناير وفبراير الأخيرين، لم تصرف حتى الآن.
 
وصدر عن الوقفة الإحتجاجية المذكورة، بيانا صحفيا، تضمن تفاصيل المشاكل القائمة التي ما زال الموظفون النازحون يعانون منها حتى اليوم..
 
 وشدد البيان على ضرورة تنفيذ المعالجات الرئيسية الثلاث، التي تضمنتها المبادرة الصادرة عن كل من: ملتقى الموظفين النازحين بالعاصمة المؤقتة عدن، وجمعية المعلمين المنقولين والنازحين التربوية، وبقية المكونات والنقابات الناشطة من أجل الموظف.. (لمعرفة النقاط الثلاث، أنظر مخطط الأنفوجرافك أدناه)

 

وكما يوضح المخطط السابق، فقد حذر البيان الصادر عن الوقفة من أنه في حال لم تقم الحكومة بتلك المعالجات، فإن الكيانات النقابية ستقوم بالتصعيد عبر تنفيذ اعتصام مفتوح أمام وزارة المالية، وتجهيز ملف للتقاضي ضد الحكومة أمام المحاكم المحلية والإقليمية والدولية..
 
 
ذرائع وآلية طال موعدها
 
متى يبزغ هلال الراتب ليمحو ليل المعاناة الكئيب؟

سؤال يردده موظفون نازحون لاتوجد احصائية دقيقة بعددهم الكلي، بيد أن صدى أنين المعاناة المتواصلة يؤكد لنا إنهم بالألاف.
 
وما برحت وزارة المالية ترمي للأفواه الصارخة، ذرائع لا تسمن ولا تغني بطون عائلاتهم من جوع، كالحديث عن "آلية" مازال خبراؤها منهمكون في إعدادها، منذ زمن طال أمده، ولا موعد محدد لخروجها من دهاليز الراسخون في المال المنهوب..!!
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر