كورونا وأخواتها


د. منصف المرزوقي

بداية الستينيات كنتُ تلميذا في المعهد الثانوي الفرنسي بمدينة طنجة المغربية. وأذكر يوما استثنائيا وقفنا وسط جمع من التلاميذ وكأنّ على رؤوسنا الطير، وكنا نناقش أستاذ الرياضيات في بهو المعهد -بعد أن عُلّقت كل الدروس- بشأن ما الذي يتعيّن علينا توقعه وفعله عندما تندلع الحرب الذرية بين الروس والأميركان.
 
كان العالم آنذاك يعيش أخطر أزمة بعد فرض أميركا الحصار على كوبا وعزم السوفيات على كسره بالقوة، وبدأ الناس حولنا يُخزّنون المؤونة تماما كما نراهم يفعلون اليوم. تنفّسْنا الصعداء ونحن نسمع أن الأسطول الروسي المتّجه لكوبا عاد أدراجه؛ فالعالم -الذي عاش فعلا على حافة الهاوية- سيتواصل مكانا نعود فيه إلى دراسة الرياضيات.
 
كان علينا بعد هذه “الفجعة” أن نتحمل طيلة عقدين ما لا يُحصى ولا يعد من أفلام نهاية العالم، كلها تصف الحرب النووية القادمة، وكيف سنعيش بين ركام المدن نتقاتل على آخر جيفة. وفي الثمانينيات تحوّل هاجس الخوف إلى وباء نقص المناعة المكتسب.
 
أذكر مقالا في مجلة طبية يدلّل فيه زميل محترم على أن نهاية البشرية بالوباء ستكون في أجَل أقصاه سنة... ألفين. في تلك الفترة كنت أدرّس في كلية الطب بمدينة سوسة وأرأس قسم الطب الجماعي الذي كان يتابع تطور المرض، وعندما عَيّنت لطالب موضوع رسالة الدكتوراه حول مواقف وتصرفات الجمهور تجاه المرض والمرضى، كِدت أطلب منه -بعدما عاد إليّ بالنتائج- عدم نشر المعطيات لهول ما اكتشفنا.
 
كان الداء في عقول أغلبية البشر العاديين وهم يدْعون لتنفيذ أقصى أنواع العزل على المصابين، لا بل ذهب البعض منهم إلى المطالبة بقتلهم. والأغرب كان موقف السلطات آنذاك، وقد سنّت قانونا -عارضتُه بمنتهى الشدة- يجيز سجن المرضى إلى أن يتماثلوا للشفاء، والحال أنه لم يكن لدينا إذ ذاك أي علاج.
 
ثم هاجمَنا هاجسُ دخول سنة الألفين وكيف ستتوقف كل الحواسيب عن العمل، لخلل في برمجتها لم يأخذ بالحسبان المرور من القرن العشرين للقرن الحادي والعشرين. كم صدّعوا رؤوسنا بهذه القصة، وكيف ستحط الطائرات فوق الأشجار، وتصاب محطات الكهرباء بالشلل... إلخ! كم من الناس عاشوا ليلة المرور إلى سنة 2000 وهم يتوقعون سقوط السماء على رؤوسهم!
 
حدِّث ولا حرج عن خوف التحول المناخي والبرنامج   حسب البعض دخولنا مرحلة الانقراض السادس وفناء الجنس البشري بعد أن أصبحت الأرض غير قابلة لإيواء غير النمل والصراصير.
 
لنضع التواريخ جنبا إلى جنب: 1962 أزمة صواريخ كوبا؛ 1980 بداية أزمة نقص المناعة المكتسب؛ 1999 رعب توقف الحواسيب؛ 2020 أزمة كورونا فيروس الحالية. ثَمة إذن تقريبا كل عشرين سنة أزمة ضخمة تختلف عن كل ما عرفه التاريخ من أزمات، بما أن آثارها لم تعد محلية أو إقليمية وإنما تشمل البشرية والعالم.
 
والآن دقّق النظر في العشرين سنة الأخيرة، وستكتشف أنها شهدت تفجر ثلاثة تهديدات كبرى على الصحة العالمية: وباء سارس سنة 2002؛ ووباء ميرس سنة 2012؛ ووباء إيبولا سنة 2013.
 
لكي تتضح الصورة كاملة؛ فإنه لا يبقى عليك إلا وضع هذه الأزمات السياسية والصحية في الإطار الأوسع، أي الأزمة الخانقة التي يمرّ بها الكوكب وأساسا الحرائق الكبرى (Méga feu): البرتغال 2017؛ السويد، كاليفورنيا 2018؛ البرازيل، الكنغو، روسيا 2019؛ أستراليا 2020.
 
                                          **
 
عندما تضع كل هذه الوقائع جنبا إلى جنب باحثا عن القاسم المشترك بينها؛ فستكون كمن يتفحص ظاهرة بوجهين: تسارع التاريخ، وما أسميتُه في كتاب صدر لي سنة 1986 بعنوان ‘دع وطني يستيقظ‘ (موجود على موقعي): "تصاعد قيمة الرهان".
 
ليس من باب المبالغة أو المباهاة القول إنه لا يوجد جيل -من بين آلاف الأجيال التي تعاقبت على سطح الأرض منذ مئات آلاف السنين- أكثر حظّا من الجيل الذي أنتمي إليه. كيف لا وجيلي هو الذي شاهد بأم عينيه دقيقة بعد دقيقة نزول أول إنسان على سطح القمر، وأول مسبار على سطح المريخ، ولا أتحدث عما عاشه من ثورة في ميادين العلم والتكنولوجيا والصناعة والمواصلات ووسائل الاتصال.
 
إنها ضربة حظ بمثابة حضور اكتشاف النار، ثم انطلاقة الثورة الزراعية، ثم الثورة الصناعية في عمر بقصر عمر الإنسان. ولمزيد من إغداق نِعَمها على جيلي؛ جعلته الإرادة الإلهية أو صدف التاريخ يعيش أحداثا لا تكاد تصدّق، من منظار مؤرّخ يتابع تطور الأنظمة السياسية والمجتمعية.
 
ففي هذه العقود السبعة التي عشتُها؛ شاهدت انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية الفرنسية والإنجليزية، وانهيار الإمبراطورية السوفياتية وانحسار الشيوعية وتقدم الديمقراطية وأفول نجم الغرب، وتراجع النظريات العنصرية وانتخاب رئيس أسود في أميركا، واكتساب النساء جلّ حقوقهن، ناهيك عن صدور أول وثيقة تُجمِع عليها البشرية بأكملها، ألا وهي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
 
كأنّ الزمان الذي كان بحاجة لمئات الآلاف من السنين للمرور من الحضارة الأولى المبنية على اكتشاف النار، إلى الحضارة الثانية التي بُنيت على الثورة الزراعية، واحتاج لعشرة آلاف سنة للمرور للثورة الصناعية التي مثلت الحضارة الثالثة؛ اكتفى ببضعة عقود للمرور إلى الحضارة الرابعة، حضارة المعلومات التي نعيش تسارعها هي الأخرى. ولا أحد يعرف ما هي ملامح الحضارة الخامسة ولا على أي ثورة جديدة ستبني دعائمها؛ والمؤكّد الوحيد هو أننا على أعتابها.
 
إن الوجه الآخر للظاهرة هو ما أسميته "تصاعد قيمة الرهان". لماذا لم تتغلب الأجيال الماضية على الفقر والمرض كما نجحت في ذلك الأجيال الجديدة؟ لم تكن أغبى أو أقل إنسانية منا ولكن إمكانياتها كانت محدودة. لماذا لم تخرّب الأجيال الماضية الكوكب كما نخرّبه اليوم؟ لم تكن أذكى أو أطيب من الأجيال الجديدة لكن إمكانياتها كانت محدودة.
 
القاعدة أن الطفرة العلمية والتكنولوجية -التي ميزت القرنين الأخيرين عن مئات آلاف سنين تاريخ البشرية- رفعت الفعالية في القدرة على البناء إلى أعلى الدرجات، كما أوصلت نفس القدرة على الهدم إلى مستويات مرعبة.
 
تصوّر مقامرا تتزايد خبرته في اللعب بسرعة مذهلة، لكنه يلاعب عالما همّه الأول التوازن لا يعطي باليمين إلا ليأخذ باليسار؛ وها هو يحقق -المرة تلو الأخرى- أرباحا خيالية لم يتجاسر حتى على الحلم بها. وفجأة تأتي الخسارة وهو في نشوة النصر، إذ يفقد في لعبة واحدة جلّ ما ربح إضافة ليده اليمنى.
 
وكلما واصل هذا المقامرُ اللعبَ تكدسَت لديه الأرباح تتبعها خسائر بنفس الحجم، والخيار أن يتوقف عن اللعب أو أن يَقبل بقاعدة اللعبة، وهي أن حجم الخسائر سيكون بحجم الأرباح، وأنه قد ينتهي أشلاء فوق كتلة من الياقوت والألماس.
 
انظر كيف أعطتنا السيطرة على الطاقة الذرية الكهرباء، ثم أعطتنا الإشعاعات النووية الحاملة للسرطان والقنابل القادرة على محو الحياة من الأرض؛ وانظر كيف أدى تشغيل ملايين العاملين في صناعات الفحم والبترول والسيارات إلى خروج مئات الملايين من الفقر، ثم إلى كارثة الانحباس الحراري المؤدي للحرائق الهائلة. ثم نظر كيف مكّن اكتشاف المضادات الحيوية من التغلب -طيلة نصف قرن- على الأمراض الجرثومية التي عصفت مرارا وتكرارا بالمجتمعات والدول، طيلة القرون الماضية.
 
لكن كيف أدت نفس الأدوية إلى اصطفاء الجراثيم المقاوِمة لكل هذه المضادات، وقد تتسبب هذه الجراثيم مستقبلا في أوبئة أخطر من كل ما عرفنا. أنت لا تَبسط سيطرتك على أعماق الغابات الاستوائية، وتستثمر بكل جشع خشبها، دون أن تتصل -طوعا أو كرها- مع الشمبانزي والخفافيش، فتعود للقرية الصغيرة ثم للعالم الواسع بفيروسيْ نقص المناعة وإيبولا.
 
من أين لنا التنعم بكل مزايا الإنترنت دون التعرض يوما لإمكانية توقف خدماته مع التبعات الكارثية التي لا نتصور لها حجما، والحربُ الإلكترونية في بدايتها؟ من أين لنا سهولة الانتقال إلى أقصى مكان في العالم دون أن يؤدي ذلك أيضا إلى انتشار هذا الفيروس وغيره، انتشار النار في الهشيم؟
 
هكذا جهِلنا أو تجاهَلنا قانونا بديهيا مقتضاه أنه لا شيء في هذا العالم بالمجان... وأن لكل ثمين ثمنا... وأنه لا إيجابيات دون سلبيات (ولا سلبيات دون إيجابيات، كما لاحظ لي المهندس إسلمو ولد معلوم الذي يدقق مشكورا من شيكاغو كل مقالاتي ومنها هذه المقالة معلقا عليها: حقق كورونا خلال أسبوعين ما عجزَت عنه كل اجتهادات البشر في مجال خفض التلوث).
 
 
 
**
 
مجمل القول: كورونا وأخواتها ظاهرة لمرحلة مفصلية تمرّ بها البشرية نتيجة تسارع التاريخ وتصاعد قيمة الرهان، وهي مرحلة لا أحد يعلم هل ستتوقف ومتى وعلى أي حالة. كل ما نحن متأكدون منه أننا سنواجَه مستقبلا بجوائح أخرى، أكانت أوبئة لجراثيم وفيروسات تُربَّى داخل المستشفيات والمختبرات، أو كوارث طبيعية نتيجة الانحباس الحراري، أو انهيار في النظام المصرفي كالذي حدث سنة 2008، أو حروب الإنترنت التي قد تدمر الاقتصاد أكثر من أي حرب نووية.
 
ما الذي يمكن استخلاصه لحدّ الآن من تجارب يجب أن تستثمر لمواجهة التحديات الضخمة التي تنتظرنا؟ هناك خوف حقيقي على مستقبلنا نتيجة ما تبلوره هذه الأزمات من تصرفات، تذكّر بدوام وعمق وخطورة الجزء المظلم من الطبيعة البشرية.
 
انظر إلى الكمّ الهائل من الغباء والعنصرية لتنمّر البعض على الآسيويين المتهمين بنقل العدوى؛ وانظر إلى صراع الناس في كل مكان على التخزين الغذائي، لا يهمهم مِن أمر غيرهم شيء؛ وانظر إلى تصاعد موجة تخزين السلاح التي تعصف بالولايات المتحدة منذ بداية الوباء الحالي، وكأن القوم يستعدون لحرب الكل ضد الكل.
 
هناك -لحسن الحّظ- أمل حقيقي في قدرتنا على رفع كل التحديات. ليس من باب الصدفة أننا تجاوزنا كل المحن، وسنتجاوز بعون الله هذه المحنة؛ فهذه الأزمات هي التي تبلور أيضا أحسن ما فينا. هي لا تبرز قيم التعاضد والأثرة فقط، وإنما تشحذ أيضا الذكاء والإرادة كما تفعل دوما التحديات الكبرى، ولا يهمّ أن يكون الخوف هو المحرك الأساسي.
 
تصوّر لو أن السينما لم تلعب دورها في الستينيات والسبعينيات -عبر الأفلام المرعبة- في تحسيس الشعوب بما تتعرض له من أخطار الحرب النووية؛ فهل كانت هذه الشعوب ستمارس ما يكفي من الضغط على حكامها، لكي توضع كل المحاذير ويبدأ التحكم في آليات منع وقوع الكارثة؟
 
المؤكّد أن موجة الهلع التي اجتاحت العالم بعد ظهور فيروس نقص المناعة المكتسب، هي التي جنّدت الأموال والطاقات العلمية التي استطاعت أن تحدّ من انتشار الوباء، وتمكّنُنا اليوم من الحديث عن الشفاء من المرض. نفس الشيء بخصوص المحاصرة السريعة لأوبئة سارس وميرس وإيبولا.
 
إن ما عايشناه في العقد الأخير من خوف داهم بخصوص تأثير التحول المناخي، كان ولا يزال الحافز الأساسي لكل ما تسعى إليه الدول ومؤسسات المجتمع المدني للحدّ من تبعات الظاهرة، أو على الأقل الاستعداد لها والتأقلم معها. والثابت أن تسارع التاريخ وتصاعد قيمة الرهان -بما يعنيه الأمر من تكاثر وتعاظم الأخطار والتحديات- سيفرضان علينا جميعا جهدا كبيرا على ثلاثة مستويات:
 
- المستوى النفسي الاجتماعي: يجب تهيّئة الأجيال الحالية -وخاصة أجيال المستقبل- للتأقلم السريع مع الطارئ وغير المتوقع، وتطليق وهم الاستقرار؛ لأن الأزمة هي الشيء القارّ الوحيد في الوضع الجديد، والمستقبل لن ينتهي من أزمة إلا ليُسلمنا لأخرى.
 
- المستوى الفكري الثقافي: المطلوب جيلٌ جديد من المفكرين والمثقفين والإعلاميين يتعاملون بأفكار مبتكَرة ومنهجيات جد مختلفة مع مشاكل غير مسبوقة بتعقيد غير مسبوق، ليبحثوا -بتواضع غير مسبوق- عن حزمة حلول كلها موجودة في رحم المستقبل، لا في الوصفات التي تقادم عهدها.
 
- المستوى السياسي المحلي والعالمي: كل سلطة لا تنخرط في مخططات حماية للأمد القريب والمتوسط والبعيد فهي غير جديرة بالمسؤولية. والمطلوب -خاصة في بلداننا العربية البالغة الهشاشة- اعتماد خطط محكمة لتوفير احتياطي إستراتيجي من الدواء والغذاء والوقود، لمواجهة كوارث مناخية ستتكاثر، وأوبئة بفيروسات مجهولة ستفاجئنا مستقبلا كما فاجأتنا هذه الجائحة.
 
وتبقى الخيارات الإستراتيجية رهينة بتطور الأوضاع: هل ستنهار الليبرالية كما انهارت الشيوعية قبل كارثة عظمى أو بعدها؟ أي مفاهيم جديدة نستبدل بها الأوثان الفكرية التي عبدناها طيلة القرنين الأخيرين (التقدم، التطور، النموّ، التحكم في الطبيعة)؛ العلم عند الله والعمل عند الإنسان.
 
حفظكم الله في هذه الأيام الحرجة من الكرونوفوبيا، أما الفيروس فمقدور عليه. وحفظكم أيضا من التفاؤل ومن التشاؤم، فأفضل موقف هو ذاك الذي أوصى به الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي: "التشاؤل"!
 

*نقلاً عن الجزيرة نت

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر