الإسلام المفترى عليه 


عبد الحليم قنديل

لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يوجد إنسان يستحق الصفة، فضلا عن أن يكون مسلما، يصح له أن يتقبل أو يبرر عملا وحشيا، كالذي تورط فيه شاب شيشاني منتسب لدين الإسلام، وقطع رأس معلم فرنسي، قام بتدريس رسوم كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، فلا جدال في قبح ما فعله الفرنسي مقطوع الرأس، ولا جدال كذلك في قبح فعلة الشيشاني، الذي قُتل بدوره خلال الحادث نفسه. 
 

القصة الدموية لن تكون الأخيرة للأسف، فكم قُطعت رؤوس من قبل، وكانت الجرائم في غالبها بحق المسلمين، ارتكبها نفر منهم، افتعلوا لأنفسهم عصمة ورخصة دينية في غير محل، وكفّروا بها غالبية المسلمين في ديارهم، مع أن الثابت الذي لا يصح لأحد أن يماري فيه، هو أنه لا مكان ولا معنى لسلطة دينية في الإسلام، ولا حق لأحد في التكفير الجزافي، وهو ما نهى عنه نبي الإسلام، الذي يدعي بعضهم الغيرة على اسمه وسيرته، ويتورطون في أبشع الجرائم بدعوى الدفاع عنه، بينما هم يسيئون لدين النبي، بأكثر من إساءة الرسوم الحقيرة بحق النبي، عليه الصلاة والسلام، التي أعادت نشرها مجلة «شارلي إبدو» الهزلية. 
 

وبدعوى حرية التعبير، التي تتيح للفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين والغربيين عموما، ادعاء الحق بإهانة نبي الإسلام، والسيد المسيح كحرية تعبير، بينما يحرّم عندهم ويجرّم، أن يقترب أحد بالريشة أو بالقلم أو بالصوت المسموع، من اليهود، أو المحرقة، والمحرقة جريمة مروعة بالطبع، وتستحق الإدانة القطعية، وأيا ما كان العدد الحقيقي لضحاياها، لكن فرضها كدين مقدس يلفت النظر، وينسف كل ادعاء أوروبي أو فرنسي عن ضمان حريات التعبير، والمناقشة والبحث التاريخي، وإذا كان «العداء للسامية» عملا عنصريا، فإن ازدراء أديان السماء والأنبياء عمل عنصري عدواني تحقيري، ومن حق من يشاء أن يؤمن، أو أن يكفر، لكن ليس من حقه ازدراء عقائد الآخرين، وكراهية الإسلام ـ أو «الإسلاموفوبيا» ـ جريمة بشعة، أحق بأن يجرمها القانون، خصوصا في دولة كفرنسا، تقول إن علمانيتها محايدة الصلة بالأديان، وأنها تكفل الحرية والإخاء والمساواة لمواطنيها بمن فيهم المسلمون. 
 

وليس بوسع أحد، أن يقبل عقلا ولا منطقا، دعاوى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو غيره عن ارتباط الإسلام بالإرهاب، وهذه فرية ركيكة، إذ أنها تخلط عن عمد مريب، بين الدين وسلوك بعض أتباعه، فبعض المسلمين يرتكبون فعلا أعمالا إرهابية مدانة، لكنهم ليسوا عنوانا على سلوك وأسلوب حياة الغالب الأعم من المسلمين، وأعدادهم تناهز اليوم نحو الملياري نسمة في أوطان الدنيا كلها، بينما جماعات الإرهاب بينهم لا تتجاوز عشرات الآلاف، ضحاياهم غالبا من عامة المسلمين قبل غيرهم، وأفعالهم ينكرها صحيح الإسلام كدين، إلا في أحوال «جهاد الدفاع» ومقاومة المحتل الأجنبي للأوطان، وهو ما لا تفعله جمهرة الإرهابيين المنسوبين زورا لدين الإسلام. 
 

وجرائمهم المرذولة على قبحها، لا تعادل في بشاعتها واحدا على تريليون من جرائم الأوروبيين والغربيين عموما، وغالب الأخيرين، ينسبون أنفسهم لدين المسيح عليه السلام، فقد قتل الغربيون، المسيحيون دينا في الظاهر، وفي حملات احتلال وإبادة، قتلوا مئات الملايين من البشر، واستنزفوا ثروات أوطانهم، وأبادت فرنسا وحدها ـ مثلا ـ مليونا ونصف المليون من الجزائريين المسلمين، ومن دون أن يصح لأحد نسبة هذه الجرائم لدين السيد المسيح، حتى لو كانت حملات الغزاة تتشح بردائه أو برداء النبي موسى، ولا يصح للمسلم بالذات، أن ينسب شرا لديانات السماء في ذاتها الأصلية، فالإسلام هو الدين الخاتم، والمسلم الحق يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعا، لا يفرق بين أحد منهم. 
 

ومن الإنصاف، ألا ينسب كل شر ومصيبة لحقت بالمسلمين كبشر، إلى غزوات واحتلالات ومطامع الغربيين المتصلة، بل بين المسلمين، من يصنعون الشر لأهلهم، بل يهينون دين الإسلام في أصوله الصافية، فلا علاقة تطابق بالضرورة بين الإسلام وأحوال المسلمين، صحيح أن الإسلام دين شامل، ومصادره الحصرية في النص الديني الحاكم، أي في آيات القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة قطعية الورود قطعية الدلالة، وآيات القرآن كلها قطعية الورود بالوحي، لكن الدلالة قد تختلف بين آيات محكمات، وأخر متشابهات. 
 

وقد يكون من المفيد التمييز بين دائرتين من شمول الإسلام، دائرة ألصقت فيها عقيدة التوحيد وأحكام العبادات والشرائع، وهي دائرة شمول إلزامي، بينما الدائرة الأوسع من الشمول ذات طابع توجيهي، تلزم بقيم التوحيد والمساواة والشورى والعدالة، ولا تنص على تطبيقات بعينها في الاقتصاد والسياسة، متروكة للبشر المسلمين، حسب اختلافات الزمان والمكان، والشريعة ملزمة إلهية المنشأ، بينما الفقه بإجمال مذاهبه، وضع بشري تماما، لا قدسية ولا عصمة فيه، وقد لعب الفقهاء والمتكلمون المسلمون الكبار، أدوارا مضيئة في زمانهم، لكنها لا تلزم مسلما على نحو ديني أو شرعي، إلا من باب العلم وإعادة النظر. 
 

 ودول الخلافة الإسلامية ليست كيانات مقدسة، بل كان بعضها مدنسا إلى أبعد حد، خصوصا في عصور الحكم بالدم، ولمن غلب، فدولة الخلافة ليست أمرا دينيا، بل كانت من ظواهر امبراطوريات العصور الوسطى عند المسلمين، وعند غيرهم، كان الادعاء الديني غالبا فيها، ومن دون أن يكون حقيقة، اللهم إلا في عصر الخلافة الأول بعد وفاة النبي المعصوم، أو ما يعرف بفترة حكم الخلفاء الراشدين الأربعة، وقد حكموا جميعا لمدة ثلاثين سنة، وولى كل منهم بطريقة مختلفة عن سابقه، فلا نص ديني قطعي حاكم في قصة الخلافة كلها، وقد قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين غيلة، في إشارة إلى كون مجتمع المسلمين وقتها خليطا من الخير والشر، فلا هو مجتمع ملائكة، ولا كلهم من الأطهار الأبرار، بل كان مجتمعا دنيويا، رغم ما فيه من الهدى الديني، وبعد الخلفاء الراشدين، صرنا بصدد دولة التملك بالغصب والاستيلاء. 
 

 وجرى على دولة الخلافة ما جرى لغيرها في أديان أخرى، عصور ازدهار فأزمنة انحسار، ثم تخلف عن إيقاع العصور اللاحقة، ذوت معه الامبراطورية كغيرها من الامبراطوريات البشرية، بينما يتصور البعض من جماعات الإرهاب ومن غيرها، أن الخلافة هى الإسلام، وأن الدنيا كلها صارت «دار حرب» ما دام أن الخلافة زالت، وأن «دار الإسلام» غابت، وهو معنى عبثي تماما، يهين قداسة الإسلام المنزه عن خطايا المسلمين، وعن جرائم كثير من الخلفاء والمدعين، وبما فيها صور من «الخلافة» الكاريكاتيرية الأحدث ظهورا، كما خلافة «داعش» وأخواتها، وهو ما ساعد على ترويج التصاق تهمة الإرهاب بالإسلام نفسه، وتلك جريمة مشتركة بين الغزاة الغربيين وجماعات الإرهاب المدعية للإسلام، لا يجني حصادها المر، سوى المسلمين في أوطانهم، وفي مهاجرهم. 
 

ومن حق المسلمين طبعا، كما من حق غيرهم، أن يدفعوا عن أوطانهم كل عدوان، وكل احتلال، كما هو الحال في احتلال فلسطين مثلا، لكن ليس من حق أحد أن يصور الدنيا كلها كدار حرب دينية، وهو ما يعود بالأذى على المسلمين قبل غيرهم، وقبل قرون، كان للإمام الشافعي اجتهاده المنير، فقد وسّع المفهوم الفقهي لما يسمى «دار السلام» أو «دار الإسلام» وكلها مفاهيم بشرية محضة، قال الشافعي أن «دار الإسلام» تكون في أربع حالات، أولها التي يحكمها مسلم وتقام فيها شعائر الدين، وثانيها التي تقام فيها شعائر الدين تحت حكم غير المسلم، وثالثها أوطان دخلها حكم الإسلام من قبل وأخرج منها، ورابعها الأوطان التي يأمن فيها المسلم على حياته وشعائره، أي أنه لم يخرج دارا أو وطنا في العالم من معنى السلام، إلا أن نكون بصدد حرب أو عدوان، أو احتلال وافد، حينها تكون الحرب مشروعة. 
 

وتأمل ـ من فضلك ـ بلاغة تفكير الإمام الشافعي، وهو أصح لزماننا من تخلف جماعات التكفير بالجملة، التي غزت وتغزو قلوب وعقول المسلمين المنهكة في ديارهم، ثم في أوطان جديدة هاجروا إليها، وتحول بينهم وبين قواعد التعايش الآمن، بل تحوّل بعضهم إلى قنابل موقوتة، تشعل روح العداء للمسلمين عند كارهي الإسلام المفترين على نبيه الكريم، وتفاقم معاناة المسلمين، وتصورهم كخصوم للحياة والتحضر والعلم وروح العصر، وتديم التخلف والقتل في ديار المسلمين. 

 

*نقلا عن القدس العربي 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر