ذَهَبت عبْس، وبقي عنترة. اندثرت وتلاشت وعاش إبن شداد. جاوز هامشها المحدد إلى المتن اللامحدود.  

اختار حضوره الخالد في ذاكرة الأبد، جاعلا عبْسًا على هامشه، تمر بها العصور عابسة منكرة وقد آلت رهينة شعره، وحبيسة انكاره ورفضه على امتداد الزمن.
       
ما زال عنترة كما هو وكما أراد البقاء كما اختار أن يكون ما زال يصول ويجول على صهوة الشعر والزمن، متقدًا في وعي الأجيال وذاكرة العصور، حيًا مقاومًا العدم، رافضًا أن يموت؛ لكأنه قتل النسيان.
 
تنجز العظمة تعابيرها الباقية، وعنترة سيرة إنسانية متقدمة، دائمة التأثير والإلهام، متجددة الحياة، زاخرة بالأسرار والمعاني الكريمة، قابلة لتعدد التفاسير والاسقاطات المختلفة.
 
عنترة قصة كفاح مرير، ورحلة عذاب، تفنن ابن شداد في جعلها أكثر عذوبة وخصوبة.

عنترة رؤية متجاوزة للصراع من أجل الوجود في مواجهة اشكال القهر والاستلاب والاغتراب والإنكار. 

مجّد الوعي الشعبي بطولته وشجاعته، وأحبوا حبه لعبل ورأوا فيه المثل المحبوب. حارب عنترة بروح العاشق وقلب الفارس النبيل.

هي معركة القلب يلمع فيها فؤاد عنترة بأكثر مما يلمع سيفه، إنها فروسية الحب، يستعرض فيها قوة عشقه جسارة ولهه.
 
عبلة ذكراه الحية تنسيه الموت وهو محيط به من كل الجهات. تفقد أدوات القتل وظيفتها تصير محركا للحنين، مرايا لوجه المحبوب. تعكس أجمل ما يحب:
 
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي  
فوددت تقبيل السيوف لأنها 
لمعت كبارق ثغرك المتبسم 

لايتردًد عنترة في محاولة إستثارة عواطف عبل, يستدعيها في لحظة فاصلة وهو مثخن نازف تتناوشه الرماح والسيوف. 

لكأنها جرحه الكبير الذي ينسى معه كل الجراحات، انهكا حبه الذي لا يمكن أن تحضر معه الكراهية حتى ضد أدوات القتل والفتك والهلاك.

حبه الذي يؤنسن معركته، عشقه الذي يمنح صراعه المعنى والقيمة. فقد كان صراعًا من أجل الحب. كان الحب مطلبه  لتجاوز التهميش والإقصاء والإلغاء.

الإعتراف الأهم الذيً ينشده. أن يكون محبوبًا ومطلوبًا ومتقبلا. فروسيته مسلّم بها. لم يكن بحاجة الى مايثبت ذلك،ولا يعنيه انتزاع اقرارعبس به بطلا، ضعفها وحاجتها اليه أمور بادية للعيان، ما أراده اعترافًا غير منقوص بحقه في الحب. 

عبلة وحدها هدفه، مراده، قهره، وشرط حريته.
 
سلطة الحب معادل وجوده.  ورغم قساوة إنكار مجتمعه، ظل في صف قبيلته التى لم تقبل به زوجًا في حين تستدعيه حاميًا ومدافعًا وملاذًا، لم تدفعه النقمة الى الوقوف ضدها، ولا الى التحالف مع أعداءها وإعلان الحرب عليها.
 
كافح التهميش بطريقته، لم يكن صراعه من أجل عبْس، بل من أجله هو، وفي سبيل ما يحب.
 
تلك طريقته في الإحتجاج ضد تقاليد عبس القاهرة. أسلوبه في الإنتصار على التمييز، عنترة يثبت ذاته، يواصل إدانة مواضعات قبيلته الناكرة لأهليته الكاملة، يدافع عن أحقيته بعبلة، يوغل في وصف بطولته وانجازاته في الحرب ليفضح الموقف النقيض والجاحد  لقبيلته. 

عبْلة تيمته الغالبة، الآسرة الأسيرة، كانت هي الأخرى عبئه، وفي مواجهة المنع والحضر والتقييد لحريتها في لقائه والإتصال به منحها مطلق الحضور في شعره، أطلقها في فضاءات قصائد حرة، تتجاوز قيود الإنسان والمكان والزمان، معلقته "المذهبة" على صدر الكعبة ملحمة عشق رومانسية، إحتفاء أثير، وضاج بعبل.
  
هذا الحضور الكثيف لعبلة في شعره معادل  للحجب القسري والتغييب المفروض، وفي هذا السياق يبدو  الشعرالعربي مذ كان اختراقًا لمواريث الحضر، مارس الشاعر العربي حقه في الحب، وفتحت القصيدة أبوابًا ونوافذ لا توصد، تطل منها المحبوبة بكامل سحرها وجمالها إطلالة أبدية فاتنة.
 
هي في شعره:عبلة، وعبل، وعبيل، لها مطلق التدليل والحضورالبهي الغامر.
 
وكما ظل يحاذر الطعنات خوفًا من أن تصيب عبلة في روحه أبدع في ابقاءهما معًا في مأمن من طعنات الزمان.
 
لم يحول عنترة مظلوميته إلى ميراث من السخط والحقد والنقمة.
 
بل حول صراعه الى قصائد حب ماطرة لا تكف عن الهطول.
 
ولقد ذكرتك عنترة في هذا الجو الصراعي المحموم، ولقد ذكرتك والأفق أسياف مشهرة وللحرب نيران لا يراد لها أن تخمد، ولقد ذكرتك والمتصارعون كلهم صرعى القلوب والعقول لا يدرون لماذا يحتربون وعلام يقتتلون؟
  
ولقد ذكرتك وانا اختنق برؤية شباب كانت الثورة بالنسبة اليهم حبًا لكنهم سرعان ما فقدوا الهدف من النضال وأضاعوا الوجهة وتناسوا قلوبهم في حمأة الصراع.
  
لكأننا نصارع من أجل الصراع، لا عبلة لنا تؤنسن هذا الفضاء المختنق بالمكائد والخيانات ورماد القيم والأخلاق.
    
فرض علينا عنترة قصته، لكنه ربما لم يظفر بمحبوبته, وربما لم يستطع تغيير واقعه القاهر تماماً,  لكن المألات لا تنتقص من نضاله وبطولته شيئا.
 
حسبه أنه واجه القسر, وفعل كل ما في وسعه، حسبه أنه ثار ولم يرضخ، وأن أحدًا لم يستطع مصادرة حقه في الحب والخلود.

من صفحة الكاتب على "الفيس بوك"

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر