في ذروة الأزمة الدبلوماسية والسياسية بين السعودية وحزب الله اللبناني، وهي ليست وليدة تصريحات وزير الإعلام اللبناني، جورج قرداحي فحسب، وإنما أزمة عميقة لتراكمات عدة، كان في ذروتها تشكيل الحكومة اللبنانية، برئاسة نجيب ميقاتي، والتي يهيمن عليها حزب الله، الذراع الإيراني على شواطئ شرق المتوسط.
 
في ذروة هذه الأزمة، يطير وزير الخارجية الإمارتية، عبد الله بن زايد، إلى دمشق، كأول مسؤول خليجي يزور دمشق منذ سنوات، في مؤشّر تحول حقيقي في الأزمة السورية تحديدا، وهو إعادة تأهيل نظام دمشق، والدفع به مجدّدا إلى جامعة الدول العربية، والاعتراف التام بالنفوذ الإيراني الممتد على الهلال الخصيب، من بغداد مرورا بدمشق وبيروت وصولا إلى جنوب الجزيرة العربية صنعاء.
 
وعلى ضوء هذه الزيارة التي مثلما تؤشّر إلى أزمة سعودية إماراتية، غير معلنة، فهي مؤشّر، في الوقت نفسه، إلى وجود حزمة تفاهمات مسبقة بين أبو ظبي وطهران، تجلّت في هذه الزيارة الإماراتية لدمشق، ولكن التجلي الأبرز لها انسحاب القوات المرابطة بالساحل الغربي في اليمن يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، والذي كانت تسيطر عليه قوات يمنية متعدّدة من ألوية العمالقة السلفية والمقاومة التهامية، وكلها قواتٌ مموّلة ومدعومة إماراتيا، عدا عن ألوية تابعة لطارق صالح التي تتخذ من مدينة المخا التعْزية مقرّا لها.
 
فبعد يوم من زيارة مبعوث الأمم المتحدة، السويدي هانز غرودنبرغ، المخا، صدرت أوامر غير معروفة المصدر، إلى القوات المرابطة شمال مدينة الحديدة وفي كيلو 16 ومدينة الصالح ومشارف مطار الحديدة بالانسحاب من دون أي مقدمات، فأحدث هذا الانسحاب ارتباكا كبيراً في أوساط مواطني تلك المناطق وبين كتائب تلك القوات المنسحبة وفصائلها كلها، ما أوجد فراغا كبير تمكّنت قوات الحوثي من ملئه خلال ساعات بدون أي مقاومة تذكر، وسط ذهول الجميع هناك.
 
ذهبت تفسيرات وتحليلات مذاهب شتى في تفسير ما جرى، لكن أشد هذه التحليلات مسرحية كانت التحليلات التي ذهبت إلى الحديث عن أن ما جرى لم يكن سوى تنفيذ لبنود اتفاقية استوكهولم الموقع بين الحكومة الشرعية وجماعة الحوثي في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2018، والتي لم يطبق منها شيء طوال الفترة الماضية. والمضحك فعلا في هذا التحليل أن القوات المشتركة التي يمثلها سياسيا طارق صالح كانت طوال الفترة الماضية تتحدّث عن ضرورة إلغاء اتفاق استوكهولم، وإفساح المجال أمام هذه القوات لتحرير الحديدة، على الرغم من أنها، أو هذا الطرف تحديدا، ليس طرفا في توقيع الاتفاق، وليس معترفا بالشرعية أصلا التي وقعته، والذي لم يطبق منه حرفا، ونصّ على انسحاباتٍ متبادلة على مسافة خمسة كيلو من كل طرف، وترك مساحة منزوعة السلاح وإشراف أممي على وقف إطلاق النار وعلى إدارة الميناء ومواردها.
 
ولكن أيا من بنود ذلك الاتفاق لم تطبق، فظل حبرا على ورق، وخصوصا من جماعة الحوثي التي رفضته تماما، على الرغم من توقيعها عليه، وبرعاية وإشراف دولي حينها. ولكن المستجد اليوم، على ضوء هذا الانسحاب المفاجئ، هو ذهاب بعضهم إلى تبرير الانسحاب بحجّة اتفاق استوكهولم، فيما الأمم المتحدة نفسها نفت علمها بهذا الإنسحاب، وكذلك الحكومة اليمنية الشرعية أيضا. وهذا كله يعزّز فكرة أن الانسحاب فعلا حصيلة تفاهمات تمّت، وأن ما يطفو على سطح المشهد من دمشق إلى الساحل الغربي ليس سوى نتائج لهذه الصفقة.
 
بمعنى آخر، ما يجري ليس سوى ترجمة حرفية لتفاهمات على هذه الانسحابات. وما يؤكد وجود هذه الصفقة أن القوات التي على الأرض ذاتها لم تدر بذلك إلا لحظة صدور أوامر الانسحاب التي أربكتها، ودفعت بعضا من قيادات هذه الوحدات إلى رفض الانسحاب، ما اضطٌّر لتهديدهم بضربهم بالطيران، في حال أصرّوا على هذا.
 
ويضعنا ما جرى في الساحل الغربي في صورة تلك التفاهمات غير المعلنة التي لن تتوقف هنا، فجزء كبير من هذه التفاهمات الإيرانية الإماراتية قد يطبق على الأرض اليمنية ربما في مقبل الإيام، خصوصا أن الإمارات لا تزال هي صاحبة اليد الطولى في تمويل هذه الوحدات المقاتلة غير النظامية التي فشلت الشرعية اليمنية في دمجها، في إطار القوات الرسمية اليمنية، وظلت خاضعة لأجندات المموّل الإماراتي، على الرغم من وطنية هذه القوات التي يفترض أنها تابعة مباشرة لوزارة الدفاع اليمنية.
 
 
الحاصل اليوم أن هذا الانسحاب، والذي أدّى إلى تراجع قوات العمالقة وقوات الألوية التهامية ما يقارب 80 كيلو مترا من مشارف مدينة الحديدة إلى أطراف مديرية الخوخة، يكشف حقيقة هذه القوات وحقيقة المهمة والوظيفة التي يؤدّيها طارق صالح، والذي ظهر، هو الآخر، مرتبكا وضعيفا، وبلا قرار فعلي على هذه القوات أيضا، عدا عن غياب الرؤية والهدف من وجودهم هناك، وهي قواتٌ يفترض للتحرير، وليس للبقاء في المخا وبناء الوحدات السكنية وتشكيل مجلس سياسي لتمثيلها في أي مفاوضات قادمة، كما كشف ذلك طارق صالح في لقائه مع المبعوث الأممي، الذي استقبلته أيضا جماعة الحوثي بقصف مدينة المخأ بثلاثة صواريخ بالستية، تزامنا مع وجوده فيها.
 
ليس من أهداف السيناريو المقبل مواجهة جماعة الحوثي، أو فزّاعة محاربة إيران في اليمن التي انكشفت، بقدر ما يذهب هذا السيناريو إلى موضوع تعلنه الإمارات دائما، وفي كل وسائل إعلامها والممولة منها، تصفية أي وجود لأي طرفٍ كان له علاقة بثورة 11 فبراير والربيع العربي عموما.
 
ولهذا السبب، قد نشاهد في الأيام المقبلة الدفع بهذه القوات مثلا إلى الصدام مع الجيش الوطني في تعز، وإن كنت أستبعد هذا السيناريو حاليا. السيناريو المرشّح هو ما يتم التمهيد له في إعلامهم بالحديث عن تعزيز جبهة شبوة، وإسقاط المحافظ بحجّة مواجهة قوات الحوثي في مديريتي بيحان وعسيلان اللتين سقطتا، أخيرا، بيد جماعة الحوثي.
 
يظهر هذا السيناريو بقوة فيما يكتبه ناشطو الإعلام المموّل إماراتيا، وهو ما ينسجم مع المهمة التي جاءت من أجلها الإمارات، وأعلنتها أكثر من مرّة، وهي محاربة الجماعات الإرهابية، وتقصد حزب التجمع اليمني للإصلاح وحلفاءه فقط، باعتبارهم ذوي علاقة بالربيع العربي، فيما لا وجود لأي أجندات للإمارات معلنة لمواجهة جماعة الحوثي. وهذا ما ينعكس أيضا على خطاب مسمّى المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يضخم خطر حزب الإصلاح على خطر جماعة الحوثي التي لم تدخل بأي مواجهة حقيقية معه عسكريا، كما دخل في مواجهات مسلحة مع القوات التابعة للحكومة اليمنية الشرعية التي يتهمونها بأنها تابعة للتجمّع اليمني للإصلاح، "إخوان اليمن" كما يسمّونهم.
 
 
.. أين السعودية من هذا كله؟ هل كانت على علاقة بموضوع الإنسحاب من الساحل الغربي؟ وفي حال أنها على غير علم بذلك، وهذا ربما مستبعد، ما الذي يمكنها عمله؟ خصوصا أن مسألة أمن البحر الأحمر، بالدرجة الرئيسية، مسألة سعودية، حيث سعت، منذ فترة مبكرة من العام الماضي، إلى تأسيس مسمّى رابطة الدول المطلة على البحر الأحمر، وعقدت أول لقاء لها في الرياض، في 6 يناير/ كانون الثاني 2020.
 
مما يعني أن هذا الانسحاب من الحديدة قد يكون بغير علمها. وعلى افتراض ذلك، ما الذي يمكنها فعله في ظل هذا التضارب في الأجندات الذي انعكس سلبا بشكل كبير على أداء المملكة سياسيا وعسكريا، وأظهرها في موقف المنهزم عسكريا في حرب اليمن.
 
ختاما، ربما فاجأ الجميع انسحاب القوات المشتركة من الساحل الغربي، لكن المتابع لهذه القوات وأدائها وكيفية إنشائها والهدف منها يدرك جيدا أن هذا المآل الذي ألت إليه الأحداث مسار طبيعي، لقواتٍ بلا قرار وطني، وليست ضمن مؤسّسات الدولة الرسمية، وأنها تستلم مساعدتها العسكرية من خارج الحدود.
وبالتالي، من يدفع لها هو صاحب قرارها الحقيقي. ولكن إلى أي مدى سيستفيد اليمنيون من هذا المشهد؟ وكيف يمكن لهم استعادة قرارهم الوطني المختطف؟ بدون سيادتك على قرارك الوطني أنت لا تملك سيادة على نفسك، وستظل تابعا ذليلا للمموّل وأجنداته، ما سهّل المهمة على سماسرة السياسة الجدد في إبرام تفاهمات وصفقات عدة، وعلى حساب كل شيء، حتى على حساب كرامتهم التي يفتقدونها.
 
الشيء الإيجابي الوحيد للذي يجري أن يعرف اليمنيون ويعوا جيدا عدوّهم من صديقهم، ويعرفوا جيدا أنهم من دون استعادة قرارهم الوطني سيظلون مجرّد بيادق في يد المموّل، وأن بلادهم المليئة بالخيرات والمقدّرات لا ينقصها سوى استعادة قرارهم الوطني، والانطلاق نحو معركة الكرامة واستعادة الدولة اليمنية والكرامة اليمنية المستلبة من الحلفاء والأعداء في الداخل، على حدّ سواء.
 

*نقلاً عن صحيفة "العربي الجديد"

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر