الصومال بلد أول تجربة ديمقراطية على مستوى العالم الثالث كله، بعد استقلاله مباشرة، تلك التجربة التي أجهضت في مهدها بعد خسارة زعيمه وقائد استقلاله حينها منصبه أول رئيس للبلاد، آدم عبد الله عثمان، الذي قرّر إجراء أول انتخابات رئاسية ديمقراطية مباشرة عام 1967، وخسر حينها أمام منافسه رئيس وزرائه، عبد الرشيد شرمركه الذي انقلب عليه قائد الجيش حينها، محمد سياد بري، في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 1969، والذي دمّر بذلك تلك التجربة الديمقراطية الصومالية الوليدة وأجهضها في مهدها. 

 

ومنذ تلك اللحظة، والشعب الصومالي ينتظر بفارغ الصبر استعادة تلك التجربة الديمقراطية، واستعادة الأمة الصومالية مجدها ووحدتها ودولتها، بعد ثلاثة عقود من جحيم الحروب الأهلية الطاحنة التي أغرقت الشعب في دوامة صراع أهلي مدمر، أدى إلى تقسيم البلاد، وهجرة معظم شعبها في أصقاع الأرض، وخصوصا الشباب الذين يشكلون اليوم رقما صعبا في معظم بلدان المنافي والشتات التي لجأوا إليها، ويحتل بعضهم مواقع متقدّمة فيها، أميركا وكندا والسويد وأستراليا وبريطانيا وغيرها. 

 

ولهذا انتظر الصوماليون الأحد، 15 مايو/ أيار الجاري، لانتخاب رئيس للجمهورية الصومالية، ولتقرير مصير بلدهم من خلال هذا الاستحقاق، انتخاب عاشر رئيس منذ الاستقلال، في انتخابات غير مباشرة يتنافس فيها 39 مرشحا، منهم سيدة، هي الأولى ترشّحا للمنصب الرئاسي في تاريخ الصومال السياسي.  

 

ويُذكر أنّ مؤتمر عرته في العام 2000 قرّر فيه انتخاب عبد القاسم صلاد حسن رئيساً للصومال، وعودة الرئيس والحكومة إلى الداخل الصومالي. وعلى الرغم من تعثر ذلك، كان الصوماليون يأملون حينها أن تمضي الأمور بسرعة، ويتمكّنوا من خلالها من استعادة دولتهم وقرارهم واستقلال بلدهم ووحدة أراضيه، لكنّ هذا الأمل طال انتظاره في ظل الجمود السياسي، المتمثل بهيمنة النخب القبلية على المشهد الصومالي، ما أدى إلى صعود رؤساء ضعاف في واقع سياسي منقسم ومحتقن بالصراعات البينية، قبلية وعشائرية، عدا عن الاستقطابات الإقليمية التي رأت من مصلحتها بقاء الصومال خارج مسار الدولة والمعادلة الدولية كلها.  

   

ولذا يرى مراقبون صوماليون كثيرون وغيرهم أن بقاء آلية الانتخابات القديمة، المتمثلة بانتخاب كل قبيلة ممثلها لمجلسي البرلمان والشيوخ، ومن ثم انتخاب هؤلاء الممثلين القبليين رئيس الجمهورية من بين عدد من المترشحين، يبقي الإرادة الشعبية الصومالية مقيدة ومحصورة في النخب القبلية التي لا تنظر إلى الصومال الكبير إلّا من خلال مصالحها القبلية الخاصة، وليس من خلال مصلحة الأمة الصومالية التي ضحت كثيرا في الحرب الأهلية الطويلة التي أعادت البلاد عقوداً إلى الوراء. 

 

 وقد عانى الشعب كثيراً من ويلات الحرب والتشرّد والتهجير واللجوء، وانتشر في كلّ أصقاع الأرض، وقدّم من خلال النخب اللاجئة واحدةً من أنصع صور الاندماج في المجتمعات الجديدة، والتي اندفعت نحو العلم والتأهيل والتنافس العلمي في مختلف المجالات، ما ساعدها على الاندماج والدفع بأعداد من أبنائها إلى أن يتبوأوا مناصب كبيرة في المجتمعات الجديدة التي يوجدون فيها، ومع ذلك، تظل بلادهم رهينة لأفكار ما قبل الدولة الوطنية، وما قبل الحداثة السياسية التي تمارسها الجاليات الصومالية حول العالم. وكثيرون من هذه النخب عادوا إلى الصومال، وقدّموا صور أكثر نجاحاً في ما يتعلق ببرامج المجتمع الأهلي الصومالي وأنشطته على المستويات التنموية والاستثمارية كافة، كالكهرباء والإنترنت والمياه والخدمات المالية المختلفة. 

 

ولكن من يراقب المجتمع الصومالي سياسياً يصاب بالإحباط جرّاء التناقض بين حالة التنمية المرتفعة في الصومال وحالة الأداء السياسي الضعيف لحكومات كثيرة متعاقبة، يرى بعضهم أنّ أهم أسباب هذا الهزال السياسي والضعف في أدائها يعود، بشكل كبير، إلى ارتهان هذه النخب الحاكمة للمزاج القبلي الحاكم، وليس للإرادة الشعبية التي يجب أن تقرّر مصير الصومال ومستقبله. 

   

عدا عن ذلك، فإنّ التعثر السياسي في الصومال راجع، بشكل كبير، إلى حالة الاستقطاب الإقليمي الحاد للنخب القبلية التي ترهن قراراتها للمال السياسي الخارجي، خصوصاً الخليجي، الذي أثّر، بشكل سيئ وكبير، في فرز نخبة سياسية صومالية عن غيرها، تقدّم المصلحة الوطنية على كلّ المصالح الأخرى، ومن ثم بقاء القرار السياسي الصومالي رهينة لهذه الاستقطابات على حساب مصلحة الصومال ومستقبل أبنائه. 

 

ولهذا كله، ورغم اشتداد حدّة المنافسة في الانتخابات الراهنة، والتي قد تمثل نافذة أمل كبير بالنسبة للشعب الصومالي، خصوصاً أنّها انتخابات أجلت بفعل حالة الجدل الكبير بشأن طبيعة آلية إجرائها، وكان من المقرّر لها أن تجرى قبل عام، عامة ومباشرة من الشارع الصومالي كله، والذي كان ينتظر بذلك أن يستعيد قراره السياسي من يد النخب القبلية. وللأسف، جرى تأجيل هذا المسار من الانتخابات، والاستمرار في المسار القديم الذي قرّره مؤتمر عرته (في جيبوتي) قبل 22 عاماً.  

 

وعلى الرغم من حالة التنافس الظاهر في هذه الانتخابات التي يتنافس فيها لأول مرة ثلاثة رؤساء سابقين، شيخ شريف شيخ أحمد وحسن شيخ محمود والرئيس الحالي محمد عبد لله فرماجو، إلا أنها انتخابات بالنمط القديم الذي تحدّده النخب القبلية، عدا عن عامل المال السياسي الخارجي الواضح كما في انتخابات سابقة، وهو ما يجعل عجلة التغيير والمضي نحو المستقبل تمضي ببطء شديد جدا، لا يتناسب وحجم الآمال والتطلعات الشعبية الصومالية، ولا تتناسب وحجم الوعي السياسي الكبير الذي يتمتع به الشعب الصومالي، بعد كل تلك المعاناة التي عاشها ثلاثة عقود مضت. 

   

وعلى الرغم من هذا كله، لدى الشعب الصومالي أملٌ كثير في صعود نخبةٍ سياسيةٍ محترمة، تدفع باتجاه فتح نافذة أمل للمستقبل، ويتجاوز فيها الصوماليون حالة المراوحة في المكان نفسه منذ 22 عاما من الدوران في دائرة مغلقة، لا يزال لديهم كثير من الأمل والتطلعات التي تترجمها مشاريع كبيرة وناجحة في الداخل والخارج الصومالي، والتي تقدّم لنا نخبة صومالية أكثر نجاحا وأكثر تأهيلا وتطلعا نحو المستقبل، فالصورة الجميلة والمشرقة للصوماليين في المنافي والشتات من مونتريال حتى مينيسوتا وديربورن، وصولاً إلى لندن وسيدني، ويظهر فيها الصومالي المؤهل والقادر على العطاء والنجاح في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية> 
 
 

هذه الصورة التي يأمل الصوماليون اليوم تكرارها في بلدهم الأم الصومال، التي تنتظرهم بفارغ الصبر، كطائر فينيق ينتظر لحظة طيرانه بأجنحةٍ أكثر قدرةً على التحليق، فالصومال، جغرافيا وديموغرافيا، وموقع استراتيجي يطلّ به على العالم، يحتل موقعاً استراتيجياً في خريطة الجغرافيا السياسية الدولية، ولديه من الموارد البشرية الكثير، وبتأهيل عالٍ جداً، عدا عن حجم الفرص والموارد الطبيعية التي تكتنزها الأرض الصومالية من نفط وغاز، وأرض زراعية خصبة لا ينقصها سوى إدارة وتخطيط كبيريْن، حتى يشهد الصومال قفزته الكبيرة نحو المستقبل.  

 

والباب نحو ذلك المستقبل لا يمكن سوى بإيجاد نظام سياسي ديمقراطي دستوري شعبي، كمقدمة حقيقية لهذا الشعب في استعادة قراره الوطني أولاً وقبل كلّ شيء، وهذا ما يأملونه اليوم من هذه الانتخابات التي لو تمكّن الصوماليون من خلالها من الدفع برئيس قوي وقادر على المضي نحو المستقبل بآليات المستقبل نفسه وأدواته من انتخابات حرّة ومباشرة، فسيكون ذلك فاتحة خير وأمل كبير للأمة الصومالية ورحلتها الطويلة والشاقة نحو المستقبل المنشود لأبنائها في الداخل والخارج، فالصومال الجديد مرهونٌ بإرادة صومالية خالصة، لا تشوبها شائبة أي تدخل خارجي بقراراته الوطنية. 

 

*نقلاً عن العربي الجديد 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر