عودة الرئيس علي عبد الله صالح 


مهنا الحبيل

استمعت باهتمام لحديث غاضب مهم لأحد أعز الأصدقاء من المناضلين اليمنيين، ومن ذوي الخلفية التنويرية في الصف الشبابي للحركة الإسلامية اليمنية، قد يكون من المهم إبعاد جانب الانفعال والتوتر، لتحرير المسألة الفكرية في اليمن خصوصاً، وبقية بلدان الوطن العربي عموماً، والتي عاشت محنة مآلات الثورات المضادة، وفور أن نُكمل هذه العبارة يقفز اعتراضٌ مهم، هل هي مآلات الثورات المضادّة أم مآلات أخطاء الربيع العربي وتياراته؟ 

 

سؤال مهم جدله ممتد، ليس لنقل المسؤولية من النظام الرسمي العربي والإقليمي بأضلاعه الثلاثة، في دفع المشهد العربي إلى هذا المصير، والذي لم يكن لنا يوماً أن نعزله عن رؤية المركز الغربي الذي ظل يراقب بقلق أي صعود يعني، في نهاية الأمر، قيام نموذج لدولة شراكة شعبية، تُصيغ ديمقراطيتها بناءً على قيمها لا قيم الغرب، وبالتالي تبدأ عندها لحظة الاستقلال السيادي، استقلال لن يتحقق بسهولة في قبضة الرؤية الرأسمالية التي لم تتزحزح، وصراع قطبيها بين الغرب ومحور موسكو وبكين هو صراع وسائط، لا فرق بينهما في مركزية التوحش. 

 

لا يمكن أن توضع هذه المسؤولية في حوار العقل العربي الجديد كمسمار جحا للاحتجاج بها دوماً، إذ إن فلسفة الحراك الحقوقي أو النضالي أو الثوري العام تحتاج، بالضرورة، أن تحدّد هدفها من هذا الحراك، وأين نقطة الوصول المرتجاة فيه، ومتى يكون تقدير المفاسد أكبر من مصالح الشعب، فتنعطف أو تعيد صياغة وسائطها. 

   

قلت ممازحاً وجادّاً معاً لأخي وصديق المهجر الإسطنبولي قبل رحيلي إلى كندا، إنني سأستدعي لك ناشطا ثوريا بالأمس لمناظرتك، وهو أنت بذاتك لكي يردّ على أطروحتك اليوم. قال: نعم أنا اليوم أرد على ذاتي بالأمس. .. انصب حديث الرفيق على أن الثورة ثارت على اليمن نفسه، أو تحولت لذلك، وكان من الممكن أن تبقى تحت سياق الجمهورية ولا تتقدّم لإسقاط النظام، وأن مسؤولية الحركة الإسلامية كبيرة، لأن مشاركتها هي التي أعطت ذلك الزخم المختلف الذي أخلّ بتوازن الاستقرار الإنساني والوطني العربي للذات اليمنية، فسقطت ما بين وحل أنظمة الخليج وعمامة السوء الإيرانية. 

 

هذا الأمس الذي انطلق من إدانته رفيقي، كان يُبصر بروح عاطفية تكاد تجرف كل مشهدٍ حولها، وهي حالةٌ لم تكن لتقف عند اليمن، ولكنها بدأت منذ حكاية الربيع العربي، الربيع الذي يحمل بالفعل سر نهضةٍ للأمة لو استوفيت قاعدته، واستوى على الجودي، لكن ذلك لم يحصل! 

 

كان الأخ الرئيس علي عبد الله صالح، كما كانت تُردّد إذاعة صنعاء ونسمعها منذ الصغر، قوة ماكرة وذكية وذات مصالح، ولكن استبداده لم يكن سيفاً دموياً مسلطاً، كما هو حال الأنظمة الجمهورية المتلبسة بالطائفية أو القومية الثورية، وكان مهيمناً على نواحي الجمهورية، لكنه لم يكن يُفرد عباءة الأسر الشمولية للحكم، وحمدها في أثناء الليل وأطراف النهار، فكان حالة مختلفة بالفعل. 

   

كان اليمن جمهورياً قوياً، رغم أن تلاعبه بثنائية القبيلة والإقطاع ساهم في الفساد الضخم والتضييق على العقل النهضوي اليمني، ولكن هذا العقل كان يتمرّد كما فعل الشباب، وكان اليمن في عهدة الرئيس صالح الذي له إرث في أرضية النكبة التي أسقطت إبراهيم الحمدي، لكنه حافظ على توازن القوة اليمنية القومية والإسلامية، لم نعرف في عهد صالح أن الخرافة الإيرانية كان لها مدرسة يؤمها الناس، فضلاً عن أن تكون ديناً رسمياً يجحد الإسلام التشريعي والإنساني، في مدرستي الشافعي والإمام زيد. 

 

وكان الإرث اليساري موجودا وحراك الفكرة التقدمية يُطرح، والتيارات القومية والإسلامية المتعددة تدير لعبتها مع النظام الذي يخترقها أحياناً وأحياناً تخترقه، ويؤمّن كل مضام من المطاردين السياسيين العرب، وكأن العرف القبلي المجيد قد نسج خيمة تحالفٍ فكريٍّ جديدة، توطّنت في النظام الجمهوري. لعب صالح أيضاً بمعادلة الاقتصاد، لكنه كان يُخضع النظام الرسمي في الخليج لضريبة تدخله في نسيج اليمن، ولمحاصرته حتى لا تتمرّد الجمهورية على العباءات البرجوازية، فيبتزّه لصالح إنسان اليمن. 

   

ويهاجمه بعضهم بأن ثروته أيضا سرقة، وهو رقم ضخم أُخذ من تلك الإتاوات، ولعل ذلك صحيح، ولكنه لم يكن بهذا السوء الذي استُخلف من بعد إسقاطه، ولا يُمكن أن نصيغ سؤال الأزمة وكأنه تعظيم لحزب المؤتمر ولا لصالح، ولا للترويكا السياسية المشتركة معه، وهي خليطٌ شارك فيه الإسلاميون، والذين كانت قياداتهم التربوية تحت ضغط الشباب، وعقل الأمس الثائر الذي نتفهمه. 

 

لكن كارثة اليوم وفاتورة الدم والسقوط المتعدّد، وخصوصا في ظل الاستثمار المهين، وتقاسم توظيف الصوت اليمني المبتذل، وما بعد قرار الرياض حل مسبحة الشرعية، وحجم تبادل الأدوار الذي نراه في شخصياتٍ تتحدّث باسم ميراث الثورة حيناً، وباسم الشرعية المنسوخة والحالية، مروّع، حين نستذكر يمن الأمس العربي الصامد الإسلامي بلا طوائف، والروح الإنسانية التي تحجّ مناسكها بين القبائل والجبال، فتُذكّر العرب بأن أصلكم اليمني جذر حضارةٍ لا عمامة خرافة، ولا رقعة مدنية تقدس المادة على الروح. 

 

وخيانة الحوثي مبدأ الإنسان اليمني، وعمالته حين طعن في ظهر الشعب باسم الولاية لفارس الطائفية، غُبنٌ كبير ومآل كارثي، غير أن هناك مقدّمات أظهرتها المحنة بعدما اختُرقت الثورة، وسؤال الاختراق هذا مهم للغاية، في عسكرة ثورة سورية، وفي دفع اليمن إلى مواجهة صفرية، أقنعت صالح بأن يسلم للوساطة الخليجية ظاهرياً، ثم يسعى إلى الانقلاب عليها من الداخل. 

 

حينها أفلتت أدوات اللعبة من اليمنيين، فظنّ نظام الخليج أن إدخال الحوثيين إلى صنعاء سيُمكّن له توازنه، لكن عقل فارس الأذكى حسم المسرح. سؤال المقال ليس للبكاء على أطلال صالح، ولكن لدفع العقل اليمني لتحديد الخطيئة الداخلية التي نفذ منها الخصوم الخبثاء، وهو أول مهام درب التحرير. 

 

*نقلاً عن العربي الجديد 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر